18 septembre 2013



جديرة بالقراءة - بقلم الأستاذ : #سمير_الفزاع

في المشرق العربي كلّ حجر له حكايه ، تحت كلّ شجرة غفى فيلسوف ، على كلّ تلة بنى عابد صومعة ، وفي كلّ مدينة تجد قائداً أو ملهماً . على كلّ نهر تجمعت ألآف العقول فأنتجت حضارة ، وتفتقت كلّ حضارة عن علوم وآداب ورزمة أساطير . في المشرق العربي لن تجد خطوة في الفراغ ، كلّ خطوة تضع بصمتها فوق أثر عمره ألآف السنين لقدم أو أقدام من سبقونا . في المشرق العربي زحمة كبرى من الرسل والأنبياء ، في المشرق العربي حركة دائمة لأقوام وأفكار ورسل ورحالة وقادة وأنبياء وكتب سماوية . في المشرق العربي فائض هائل من لحظات إتصال الأرض بالسماء حتى أصبحت النبوة شيئاً عادياً . في المشرق العربي مراجل تعمل ليل نهار تُنتج الشعراء والأدباء والفلاسفة ، وقائدة أنصاف آلهة . في المشرق العربي أنس هائل بين البيئة والإنسان ، إنسجام غريب سمح بإختراع اللغات واللهجات بكل يسر ، إنسجام هيأ بناء المدن الكبرى والمسارح والأسواق والحضارات . انسجام جعل من العقول والقلوب مبدعة ومنفتحة في آن واحد . في المشرق العربي فرادة التوسط بين البرد القارس والحر الداهم ، فكان الإعتدال السّمة الغالبة في كلّ شيء تقريباً . توسط في المكان سمح بإستقبال أحمال القوافل من بضائع وحِرف وعادات وتقاليد وأفكار وعلوم ، ثم إعادة تحميلها ببضائع المشرق من علوم وأفكار وأديان وأشعار وفلسفات وحكايا وأساطير . المشرق العربي شبه جزيرة تضم سوريا والعراق والأردن ولبنان وفلسطين وصولاً لسيناء ويثرب ، لهذا المشرق بوابتين البصرة وحلب ، وحاضرتين دمشق وبغداد . لم تكتمل حضارة وتكتسب صفة العالمية على ضفاف المتوسط إلا عندما إتصلت بهذا المشرق و" هضمته " لبعض الوقت . تبقى أي حضارة تنشأ أو إمبراطورية تقوم مجرد صبي يافع ، ولا يكتسب الحكمة والنضج إلا عندما يتصل بهذا المشرق . في هذه المنطقة يحمل الكثيرين من أهلها " دماء مقدسة " كما هو ترابها ، فهم سلالة أنصاف الألهة والقادة العظام والرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والعلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء . وكما أن لا حضارة أو إمبراطورية ناضجة بلا إتصال بهذا المشرق ، فقد أصبح بديهيّاً أن عروبة أي عربي تبقى ناقصة مجروحة ما لم يتصل بهذا المشرق وينتمي إليه ويعشق ترابه ويؤمن بفرادته . وأنه لا يمكن لقائد عربي من خارج هذه المنطقة أن يصبح قائداً عربياً بحق ما لم يمر بمحراب المشرق ، وينحني له ويشطر قلبه فيسكن شطره فيه .

أمريكا تبحث عن إكسير الحياة :

منذ العقد الثالث من القرن الماضي جاءت أمريكا إلى هذه المنطقة واضعة نصب عينيها أهداف محددة ، أهداف تتساوق مع الذهنية والشخصية الأمريكيتين . لقد جاءت لتحصد بنهمها المتوحش خيرات المنطقة تحت الأرض وفوقها ، ولتساعد في بناء والحفاظ على أنظمة تعينها على هذا النهب وتحمي لها مصالحها وتنفذ لها سياساتها ، ولتتم إنشاء الحامية " الكيان الصهيوني " التي تضمن لها إخافة الأعداء والأصدقاء في المنطقة ، و" تؤدب" عند الضرورة كلّ من يتمرد على السياسات الأمريكيّة او يهدد مصالحها . إلتهمت أمريكا بنهم كلّ ما يمكن إلتهامه في جزيرة العرب ، وهل هناك شيء غير الطاقة وريعها يغري أمريكا بالبقاء في جزيرة العرب ؟ تعرّض تدفق النفط في شريايين أمريكا والغرب عموما لهزة كبرى - وكما هو مجرى التاريخ العربي - كان الشرق العربي مصدرها وفي القلب منه دمشق ، إنها حرب تشرين 1973 حيث أظلمت أوروبا وتوقفت مفاصل أمريكا عن الحركة . تنبهت أمريكا بأن هذا النفط لن يتدفق بسلاسة ما لم تطعن هذا المشرق في القلب ، فسرقت مصر من عروبتها وقيدتها بكامب ديفيد وأبعدتها عن دمشق . إستوعبت دمشق الضربة ، وقررت أن تحفظ للمشرق هويته وللأمة عروبتها فكان خيار " التوازن الإستراتيجي " ، والتحالف مع إيران الثورة ، وبناء ودعم المقاومة اللبنانية . خرجت مصر من المعادلة ولكن شراسة سوريا أصبحت مضاعفة ، فتقرر "هزها " من الداخل ، فكانت المعركة مع " الإخوان المسلمين " . ومن الخارج ، فكان الإجتياح الصهيوني للبنان . وحاصرت الأساطيل الأمريكية الشواطيء السورية ونزل " المارينز " إلى قلب بيروت ... صبرت سوريا وقاتلت أمريكا والكيان الصهيوني والرجعية العربية وأنتصرت . في هذه الأثناء أشعل صدام حسين حرب ضروس مع ايران قال عنها كيسنجر يوماً : إنها حرب أتمنى لو تستمر لخمسين عاماً ولا يخرج أحد منها منتصراً . وبمكيدة أمريكيّة واضحة وحجج عراقيّة واهية تم غزو الكويت ، وكأن المآسي في هذا المشرق لا تأتي فراداً . إنها الفرصة التاريخية الكبرى " لفتح " البوابة - البصرة - وسَبي الحاضرة - بغداد - فكانت مأساة تدمير الجيش العراقي ، وحصار العراق ، وتقسيمه بالنار بين خطي العرض 32 - 36 . تريثوا لبضعة سنوات لتسقط الهوية المشرقيّة عن العراق ، وحتى ينخره الجوع والمرض وينهكه الحصار والهويات الصغرى ، وحتى يأتي الرئيس الأمريكي الذي يوشوشه الرب ليلاً . جاء بوش الإبن ، والذي كان يمثل أمريكا بحق . فأستباح العراق ، وسرق متاحفها وآثارها وتاريخها ، ودمر مدنها وقراها ، وأستمتع جداً بإهانة أهلها وتفنن بطرق قتلهم وإذلالهم . لم يأت بوش ليحتل العراق فقط ، ولكنه جاء ومعه عرب الصحراء والردة لينتقم من هويتها ، وعراقة أهلها ، وليسرق تاريخها ليصنع تاريخه ، أو ليصبح الكل بدون تاريخ فيتساوى الرعاع والهمج مع الحضر وصناع الحضارة . لم تمض إلا شهور ستة حتى أعلنت بغداد ثورتها ، وأطلقت مقاومتها ، ومرة أخرى يأتي المدد والسند من شقيقة الروح وقسيمة القلب دمشق ، عدوة أمريكا اللدود .

لن تمسك بالشرق إلا إذا ملكت دمشق :

هذه المقولة أصبحت أكثر من حقيقة واقعة ومعلنة ، لذلك جاء الجنرال الأمريكي " كولن باول " برداء وزير خارجية ليأمر دمشق بفتح أبوابها وتسليم قرارها للجار الجديد أمريكا . رفضت سوريا . فكان لقاء النورماندي الشهير بين بوش الصغير وجاك شيراك في حزيران 2004 ، تقرر محاربة وحصار سوريا فكان القرار 1559 في أيلول 2004 . أدركت القيادة السورية الفخ ، وخصوصاً بعد إغتيال رفيق الحريري فأنسحب الجيش العربي السوري من لبنان في نيسان 2005 . سوريا محاصرة فلماذا لا نضرب حلفائها قبل الذهاب مباشرة إليها ؟ فوقع عدوان تموز 2006 لتدمير المقاومة اللبنانية ، وعندما فشلوا ذهبوا للفتنة الداخلية في 5 أيار 2008 ، وفشلوا مرة أخرى . فشن الكيان الصهيوني حربه على غزة أواخر العام 2008 ، والنتيجة فشل آخر . ما العمل ؟ نذهب إلى الهدف مباشرة . فكان " الربيع العربي " ، حاجات ملحة ، أنظمة عميلة ولصوصيّة ومتآكلة ، جماهير بلا رأس أو عقل ، تنظيم ممتد بقيادة " موثوقة " ، وإمكانات هائلة في الإعلام والأمن والدين والسياسة ... يمكن تسخيرها لإنتاج مشروع " الربيع العربي " . عصف المشروع في القسم العربي من شمال أفريقيا ولكنّ العيون موجهة تماماً للمشرق العربي ، وتحديداً إلى سوريا . بضعة أسابيع وستسقط سوريا كما سقط غيرها ، تم تجريب " عدة الربيع " على عدة مسارح " تونس ، مصر ، اليمن ... " وكانت أكثر من فاعلة . تمّ توجيه كلّ الأدوات والإمكانيات التي إستخدمت على كلّ المسارح الأخرى إلى قلب سوريا وعقلها وذاكرتها ، سقط الكثيرون في الإختبار ، ولم تسقط سوريا . الوقت يمضي وسوريا صامدة فأُدخلت أدوات جديدة لم تستخدم من قبل ، فتحت الحدود على مصراعيها ، وأدخل مئات الألآف من المرتزقة ، وتسربت ألآف الأطنان من الأسلحة بمختلف الأنواع ، وأستعين بجماعات الإرهاب الدولي المنظم ... . فشل ، هذه النيجة الحقيقة لجهد إستمر لعامين تقريباً . في 30 - 1 - 2013 " يضطر " العدو الصهيوني للدخول على خط الحرب على سوريا بشكل علني وسافر ، ويقصف أهدافاً في جمرايا في ريف دمشق وقفت أدواتهم عاجزة أمامها لفترة طويلة . عدة أشهر ويتكرر العدوان مرة أخرى . فكان الرد السوري الإستراتيجي بتطهير مدينة القصير وما حولها . بدا الأمر وكأن سوريا تنتصر ، وأن كلّ ما أستخدم حتى اليوم فشل في إنجاز السقوط ، بل إن الجيش العربي السوري في تقدم مستمر ، فظهرت مقولة " إستعادة التوازن " قبل الذهاب إلى مؤتمر جنيف - 2 .

في الغوطة يكمن السرّ :

تم الإعداد لعملية ضخمة في الغوطة بإشراف أمريكي وصهيوني مباشر ، بأدوات محليّة وبعض الخبراء ، لكن الجيش العربي السوري بادر وضرب المشروع في القلب قبل أن يتحرك بـ 72 ساعة . تقرر اللجواء إلى مكيدة السلاح الكيماوي - الذي كان سيتم إستهداف تجمعات الجيش العربي السوري به - فأستخدم على عجل لإنقاذ الموقف ، وتزامناً مع اللحظة التي سيضع المراقبون الدوليين أقدامهم في سوريا ، وفي الذكرى السنوية الأولى للخط الأحمر الذي وضعه أوباما لنفسه ، أي قبل عام بالضبط 20 - 8 - 2012 . حشدت الأساطيل والجيوش ، وأعدت فرق الكوماندوز ، وبدأ التصعيد . إتخذت سوريا قرارها ، لن نستسلم ، وإذا فرضت الحرب علينا ، سنقاتل وسنكون نحن من يحدد ميدانها ، وسنضربكم حيث مقتلكم .

بريطانيا ، مخزن الدهاء الإمبراطوري وذاكرة الإستعمار :

لنتذكر بأن بريطانيا هي الحليف الأوثق لأمريكا ، والجندي الأقرب لها في ساحة المعارك منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم ، فلماذا كانت أول المتراجعين ؟ تمتلك بريطانيا مخزون هائل من المعلومات الدقيقة والدراسات التاريخية والإجتماعيّة والتقارير عن كلّ المناطق الحيوية في العالم ، وتحديداً منطقة المشرق العربي . ولدى الإنجليز خاصيّة يندر وجودها عند غيرهم وهي الإهتمام بالتفاصيل الدقيقة الخاصة بكل إقليم ، وواحدة من أهم سمات المشرق العربي والشرق عموماً هي محورية دور القائد . إنهم يدرسون شخصيّة القادة لأهميّة دورهم في تحديد توجهات الدولة والمجتمع في المشرق ، فيدرسون إهتمامات القادة وثقتهم بأنفسهم ومحيطهم وثقافتهم وصلابة الإرادة لديهم ومستوى إستقلاليتهم وقدرتهم على إتخاذ القرارات المصيرية ... . لنتذكر فقط الأمور التالية لنلحظ أهميّة وأسباب التراجع البريطاني عن المشاركة في الحرب على سوريا :
1- أعلن كيري للمرة الأولى " أن نزع سوريا لسلاحها الكيماوي سيوقف الحرب عليها " من لندن ، وبصحبة وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ .
2 - جاء الإعلان بعد أن ذهبت الحكومة البريطانية لمجلس نوابها لتأخذ تفويضاً لا تحتاجه من أجل العدوان على سوريا .
3 - الكاتب البريطاني " باتريك سيل " هو من أهم من كتب عن تاريخ سوريا المعاصر ، وكان ذلك عبر كتابيه " الصراع على سوريا " و" الأسد - الصراع على الشرق الأوسط " .
4 - الدكتور بشار الأسد قبل أن يكون رئيساً لسوريا كان يطلب العلم في لندن وتخصص هناك بطب العيون ، وكان ذلك ما بين عام 1992 الى العام 1994 . وهذه فترة كافية للتعرف عليه عن قرب ، وفهم عقليته وسماته الشخصيّة .
لقد بدا واضحاً أن التريث البريطاني مبني على معلومات ، ودراسات ، وشواهد . فهم يملكون من المعلومات ما يكفي ليدركوا بأن سوريا لن تستسلم ، ولديهم من الدراسات والوقائع والملاحظات ما يكفي للتيقن بأن الرئيس بشار حافظ الأسد لن يتنازل ، وأنه متمسك بعبارة مفتاحيّة لفهم شخصيته أطلقها قبل عام ونصف تقريباً عندما قال " هيهات منّا الهزيمة " وأتبعها بعبارة " لست دمية ولم يصنعني الغرب كي أذهب إليهم وسأعيش وأموت في سوريا " .
لذلك قرر الجندي البريطاني التخلف عن زميله الأمريكي ، وأن يفتح قنوات التواصل الخلفيّة التي يتقنها البريطانيون جداً ، فتم البحث عن المخرج للمأزق الأمريكي مع موسكو ، وبدأت المشاورات حتى تم التوصل إلى إتفاق . وهكذا تثبت بريطانيا مجدداً بأنها الحليف الموثوق لأمريكا ، والخبير الذي لا غنى عنه ، وبأنها موهوبة في " خوزقة " فرنسا والقادة الفرنسيين حيث تركت هولاند معلقاً في الهواء عندما وفرت " السلّم " لأوباما كي ينزل عن شجرته .
يوما سأل باتريك سيل الراحل حافظ الأسد بماذا يختم كتابه " الأسد - الصراع على الشرق الأوسط " فردّ الراحل قُل : إن الصراع ما زال مستمراً " . صحيح أن الرئيس العبقري حافظ الأسد كان يتحدث عن هوية سوريا المقاومة ، ولكنه كان بكل تأكيد يتحدث عن ذاته وقناعاته ورؤيته للصراع . واليوم من يعتقد أن " التسوية " التي تم التوصل إليها بخصوص أسلحة سوريا الكيمائيه هي نهاية المطاف فهو واهم ، إنها محطة ، وربما لن تطول ليندلع الصراع مرة أخرى . قدر المشرق ، وسوريا خصوصاً بين حَدّي هذه المقولة التي أطلقها وأحد من ألمع سياسي العالم المعاصرين " ما زال الصراع مستمراً " . واليوم أثبت الرئيس بشار حافظ الأسد بأنه أمين على هذه الحقيقة ، بل هو يرتقي فيها إلى مستوى جديد ، مستوى أحد نتائجه الكبرى أن عالم جديد يتولد من رحم هذا الصراع ، عالم سيحدث تغييرات جذريّة في خرائط المنطقة والعالم .

Aucun commentaire: