11 mars 2011

إنتصاراً للتاريخ والثورة العربية الثالثة
تحديات: التبعية والتجويف والتجريف والريع
(الجزء الاول)
عادل سمارة
 
        لا فخر بالجهل بلحظة الانفجار الثوري ولا فخر بالتنبؤ به. لا شماتة بالقوى الثورية إن لم تتوقع ذلك، ولا شرف للمكتئبين الذين قتلونا نواحاً لعقود وتخصصوا في المراثي واختيار الردَّة والبلاطات على التماسك والتفاؤل. إنما الشرف للذين اعتمدوا العمل والحب والثورة، وها هي الثورة تنبثق. لم يكفروا ولو للحظة حتى وهم نهباً لألوان التعذيب، هم شرف جيوب المقاومة.
 عجيبة، ولكن مفهومة، هذه الهجمة على كل ما مضى، هجمة على التاريخ لنفيه واستبداله بعقل الهامبرجر ولعبة التكنولوجيا وبها قتل الإنسان الثائر بتقديس الفردانية، والالتفاف على السرديات في لحظة انبثاقها من جديد وكل هذا تضامناً مع النفوذ الجريح للإمبريالية والصهيونية في المنطقة. كيف يمكن لأحد اليوم على الأقل أن لا يرفع سيف الوعي والمقاومة في وجه امبراطورية الولايات المتحدة، فما بالك بمن ظل عميلها الثقافي والطبقي والسياسي!
        تمحور نقد التكفير والهجرة بل وتحوصل مع أصحابه ضد السلفية. لم يتنبه أحد للتكفير الآخر الذي لعب دور خادم الثورة المضادة، وتنعَّم في أحضان الأنظمة، التكفير بالناس والأمة والتاريخ. شهدنا سباقاً على اخترع الأوصاف للزمن آنذاك، رديىء، رمادي، اسود، مهزوم...الخ ولم يكن للطغاة أن يحلموا بأفضل من هذه التكفيريات لأنها تُقعد الناس في البيوت. يساريون دعموا مبارك ضد إسلاميين، وإسلاميون قفزوا إلى التكفير والهجرة، وماركسيون انتقلوا إلى الحضن الأميركي، وتنعفلوا في أنعام أوسلو-ستان، إلى جانب المستوطنين اليهود ولا خجل! هل هؤلاء هم الأقبح ام الذين وُضعوا كيافطات على دبابات العم سام لاغتصاب تاريخ بغداد، أو الذين يقبضون ويصرفون من أموال صهاينة كردستان أم قوميين تابوا إلى القطرية. لا بل تحالف هؤلاء جميعاً ليدكُّوا جمجمة القومية العربية والوحدة كما كنا ندك في الصبا راس أفعى رُعباً من نهوضها مجدداً. التقى كثرة من هؤلاء إن لم نقل جميعا على الإقرار أن أمة العرب متخلفة وميتة، وأن الولايات المتحدة قدر العالم، وأن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو شرف حداثي وما بعد حداثي.
        بدأت الانفجارات الثورية من هنا، فقفز هؤلاء على عنقها يزغردون وبزعمون أنهم حلموا بها، حتى فريق 14 آذار باغتنا بأنه كان "وحي" كل هذه الثورات، ما أكثر الآذارييين!. شكراً لكم. بعد أن اعتبرتم كل معتقداتنا متخشبة ها أنتم تسرقونها! نحمد الله أن لنا جلداً واحداً حتى لو سلخته الأنظمة التي طالما مالئتوها.
        يستشيط الكثيرون غضباً حين لا نكتفي بالمطالب الديمقراطية للثوار. والانحصار في الديمقراطية هو الحد الذي ترضى به وتخطط له اميركا (هيلاري كرئيس حقيقي واوباما كتابع يهزمه اللون) بخبث ووقاحة معاً، وحين نؤكد أن اغتيال هذه الثورات هو بالضبط في بهجة هؤلاء بالديمقراطية وحدها. وحتى النمط الديمقراطي الجديد في الوطن العربي لا يكفي، وإن كان انبثق من ارضية اعلى من اسس ديمقراطية راس المال الغربي، فالديمقراطية في النهاية هي فسيلة من الحرية، والحرية ليست في التعبير فقط بل في الشغل، في حق الإنسان في جهده وعمله، إما هذا، أي الاشتراكية، وإما الحرية المزركشة بلا محتوى.
غضب مني ذات يوم حين هاتفني قائلاً، قُلْ لي مبروك؟
على ماذا؟
توظفت.
ضحكت وقلت له أعزِّيك حين تبتهج لأنك وجدت من يستغلَّكْ! هذا ما يجب أن تصل إليه الثورات، ما يجب أن نوصلها ونصل بها إليه: إلى الإنسان الذي يعمل للجميع ولا يعمل عند أحد/فرد لصالح واحد فرد. وإذا لم نعِ هذا، فالمشوار طويل بطول التاريخ. لن تكون مساهمة إذا ما وصلنا فقط إلى ما وصل إليه الغرب.
هي غضبة شعبية مدهشة أن تصل الناس إلى الكفر بالأنظمة. لقد نشرت كنعان كثيراً ما اعتبرته اساس الانتصار: أي أن لحظة الانتصار تبدأ حين يقع الطلاق بين الشعبي والرسمي في الوطن العربي، وها هو يقع، فلندفعه إلى مداه الأقصى وليس إلى السقف الأميركي. في الوقت الذي كنا نؤكد وجوب هذا الطلاق كان مثقفون كُثر يبرطعون في باحات الأنظمة سواء بالوظيفة أو اتقاء شر النظام، لا فرق حقاً.
يجب أن يكون الشعبي اباً بنفسه ولنفسه، حذار ان تتبناه الولايات المتحدة أليست هناك؟ بلى. وإلا فمن اين أتونا " اولاد هيلاري"! يندسون بنعومة في تاريخ مصر العميق/العريق والممتد.
        هل أنت في عجلة من أمرك لتعرف ما هي "لغة" الثورة العربية الجديدة؟ أنا لست في عجلة من أمري! الثورة حدث مادي يتكلم لاحقاً وحتى يغنِّي. أنا متلهف كي أفهم التيارات التحتية التي فجرت الثورة وليس الزبد الذي على سطح النهر. ولكي لا تُغتال الثورة بينما البعض ينتحب على عدم التقاطه لغة جديدة، وعجزه عن تحليلها بأدوات جديدة ناعتاً كل أدوات التاريخ بالمهترئة والقديمة، كي لا تُغتال، علينا ان نقرأ كيف يفكر ويعمل أعداء الثورة كي لا نكون منهم ونحسب أننا ضدهم!
أعداء الثورة حلف، طبقة معولمة، يحملون مصالحهم وقد رشُّوا عليها "الطيوب" من دمائنا، ويعلنون: مصالحنا أو المذبحة! هذا درس التاريخ. حين نفهمه، نقول للجميع، تفضلوا وانحتوا اللغة التي تريدون.
 
ثورة اللحظة
المقدمات والمآل
        صار لا بد من وقفة تحليل لهجمة الإعلام المسلحة بتفسير غيبي لقدرات إله التكتولوجيا، وتحليل للصنمية الجديدة المتجلية في الاستسلام لوصف الثورات بأنها غضبة تقنية وحصرها في هذا التفسير. هل حقاً هي لحظة الفيس بوك التي حركت الشباب ومن ثم المجتمع، الملايين بقشة سحرية؟
        دعونا نفترض أن عالم الإنترنيت بتفاصيله وضعت فرقة من الشباب في حالة مقارنة دفعتهم للتحريض على الثورة، فالفضاء اللامحدود لعالم الفيس بوك داخل غرفة صغيرة يصطدم مباشرة عند لحظة مغادرة الغرفة مع عصا الشرطة وانعدام الشغل، ومنع التعبير. فمقارنة لحظة حرية الفضاء في الفيس بوك مع عقود القمع المطلق في الشارع هي محرك تمرد.
        وطبيعي أن يكون الشباب هو الذي التقط لحظة التناقض وحرَّض بها. ولكن، هل يمكننا الاكتفاء بهذه الخلفية للثورة؟ لثورة أمة؟ هل الأمر بهذا الاختزال كما يحاول الإعلام الرسمي وخاصة الغربي تصويره؟ وإذا كان هذا سبب غضب الشباب، فماذا عن غضب كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية؟ وهل الشباب بمثل هذا الفراغ من الرؤية والوعي؟ هل هناك ثورات بلا جذور؟ وهل لثورة بلا جذور أن تُثمر ولحركة بلا راس أن تستمر؟ وليوم بلا تاريخ أن يمتد؟ وباختصار، هل يقود الجهاز التقني المجتمع؟
        يميل العقل الانطباعي إلى اخذ ما هو قائم والبدء منه كي يهرب من التحليل. العقل الانطباعي ليس قلقاً، عقل مطمئن ويسعى لاطمئنان اكثر فيكتفي بما يرى. لذا، خرجت كتابات كثيرة ملخصها ما حصل جميلاً، لا توقظونا على التحليل والنقد، دعونا نتمتع بسكرة اللحظة. ونقول لهم، بهذه العقلية كان لكثير من الثورات أن تُهزم.
إن عجز أدوات التحليل لدى البعض هو الذي يدفعهم للتكفير بمختلف الأدوات وبالتاريخ نفسه، وهذا ما ولَّد مزاعم مثل: غياب أدوات التحليل، عجز الأدوات السابقة، الأدوات القديمة لا تنفع...الخ. ولا غرابة أن من استسلموا منذ أمدٍ للهزائم وغيروا مواقفهم وجلودهم وعلاقاتهم ومعتقداتهم، لا غرابة أن يكفروا بكل شيء وأن يتفاخروا بذلك. وليس هذا الحد الأخير للأمور. المهم أنهم لا يقدمون شيئاً، لا تحليل ولا أدوات ولا يحزنون! وكأنهم يساهمون في اغتيال الثورة الوليدة باسم تنزيهها عن اية قراءة او تحليل.
 
الاستعمار: لم يغادر الوطن
         أعادت الثورات التأكيد أن الوطن العربي لم يخرج من عصر الاستعمار، وأن الأنظمة التي طحنت مختلف الحركات الثورية أنظمة قطرية لم تكن ابداً دولا مستقلة. لم يعش الوطن العربي ما تسمى مرحلة ما بعد الاستعمار بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل كانت هناك بعض محاولات لما بعد الاستعمار ثقافياً، فجاءت تماماً كنظريات ما بعد الاستعمار مضمخة بالتماهي والتطامن.
        ولم تكن اتفاقات سايكس –بيكو مجرد صياغات جغرافية تجزيئية للوطن العربي بل هي صياغات بنيوية في مختلف المستويات، وحين حصلت الاستقلالات الشكلية بقيت محكومة بجوهر سايكس-بيكو، بأنظمة عمَّدها الاستعمار، أو بانقلابات غيرت الشكل واكتشفت هول تغيير المحتوى فتحولت إلى كمبرادور، ولا أريَح لها ولا أربح. بقي الارتباط الاقتصادي والتبعية وبقيت مصالح الاستعمار المباشرة وبقي نفوذه الثقافي من المدرسة إلى الجامعة إلى المسجد إلى الوزارة إلى الحزب السياسي الذي تدهور حتى غدت قياداته من مكونات السلطة القُطرية.
        لا الأنظمة العربية التابعة أخفت تبعيتها ودورها التطبيعي [1] مع المركز الإمبريالي ولا هذا المركز أخفى عدوانه حتى اللحظة الأخيرة وحتى اللحظة القائمة، ومع ذلك هناك من المثقفين وفرق الأنجزة من يرفضون رؤية هذا! "فخلال الأسابيع الأولى للثورة في تونس أعلن العديد من الرسميين الفرنسيين على الملأ دعمهم للديكتاتور، ومنها تصريحات وزارة الخارجية الفرنسية أنها راغبة في تقديم خبرات شرطتها لمساعدة بن علي على الحفاظ على النظام[2]". وإذا كان هذا ما يُصر!َح به فما أضخم وأخطر ما يُفعَل ولا يُقال. ويبقى المطلوب لذاكرة الشعب أن لا تنسى لا لعدو الخارجي ولا تغفر للمثقف المتخارج. 
          إن الوطن العربي هو أكثر مناطق العالم انكشافاً غذائياً رغم وجود السودان، وأكثر مناطق العالم انكشافاً قوميا وأمنيا لأنه الأكثر تجزئة في العالم وأكثر منطقة فيها قواعد عسكرية لأعداء الشعب وأكثر منطقة فيها أجزاء من الوطن مغتصبة استيطانياً أو محتلة عسكرياً، وأكثر منطقة في العالم تخلو من الأنظمة الديمقراطية وتفتقر للتنمية وتغرق في الفساد. وهو المنطقة الوحيدة في العالم التي يزعم مختلف رجال السياسة والثقافة في العالم أن ثروتها لكل الأمم وليست لها وحدها، اي النفط! وأنظمة الكمبرادورفيها تُقرُّ بكل هذه الكوارث وتستدعيها. وحتى حصة الوطن العربي من نفطه تنتهي في النهاية إلى اسوق ومصارف المركز الراسمالي العدو بلا مواربة. ومن نتائج هذا كله أن الأميِّة هي الأعلى في الوطن العربي، وأن أكبر قطرياته، اي مصر، هي أكبر مستورد للقمح في العالم! فهل هذا الوطن ليس تحت الاستعمار؟  
 " لقد أشار تقرير حديث، صادر عن " الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية "، إلى أنّ فجوة الغذاء العربية وصلت في عام 2010 إلى 27 مليار دولار، ويتوقع لها أن تتجاوز هذا المبلغ إلى حوالى 44 مليار دولار في عام 2020، وأنّ الاكتفاء الذاتي العربي من الغذاء لا يتعدى 50 % من حاجات السكان، فيما يتوجب استيراد النصف الآخر من الخارج.         وكان تقرير التنمية الإنسانية العربية، الصادر في صيف عام 2009، قد أكد أنّ هناك 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، وفي ما يتعلق بالبطالة فقد " بلغت 14,4 % مقارنة بـ 6,3 % على الصعيد العالمي "، وأنّ اتجاهات البطالة ومعدلات نمو السكان تشير إلى أنّ الدول العربية " ستحتاج بحلول العام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة ". ويعتبر التقرير أنّ من أبرز التحديات الضغوط السكانية، إذ أنّ عدد سكان الدول العربية سيرتفع " بحلول عام 2015 إلى 395 مليون نسمة مقابل 317 مليوناً عام 2007 ".[3]         " من بين 352 مليون عربي هناك 190 مليوناً هم تحت سن أل 24 عاماً ثلاثة ارباعهم لا يعملون. كما أن التعليم الذي حصل عليه هؤلاء لا يقدم لهم شيئاً لعدم وجود شواغر عمل في ما تدربوا عليه[4]"
" في مصر ذات أل 80 مليون نسمة هناك 60 مليوناً تحت سن أل 30 عاماً، وهم يشكلون 90 بالمئة من العاطلين عن العمل [5]" 

"... إنّ أكبر التحديات التي تواجه منطقة المغرب العربي تكمن في عدم قدرة الاقتصاديات المحلية على توفير فرص عمل كافية للشباب، مما يزيد معدلات البطالة ويهدد الاستقرار الاجتماعي، ومخاطر الهجرة غير الشرعية نحو دول شمال البحر المتوسط. وبسبب ذلك ارتفعت معدلات الفقر في السنوات الأخيرة في دول المنطقة، إذ يقدر عدد الفقراء بنحو 18 % من مجموع السكان، وكانت هذه النسبة لا تتجاوز الـ 12 %في بداية تسعينيات القرن الماضي... إنّ المشكلة تكمن في تفاقم الفساد وحجم التبديد المترتب عليه، خاصة بعد التحول من دولة الرعاية الاجتماعية إلى دولة الليبرالية الاقتصادية‏،‏ والإحجام عن الليبرالية السياسية، مما أدى إلى انسداد أفق العمل السياسي، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات التي شهدتها عدة أقطار عربية، والتي وُصفت بأنها " هزلية ولا تمت بصلة إلى معايير الانتخابات المتعارف عليها دولياً".[6]" 
ماذا يعني غير أن هذا الوطن سلسلة مستعمرات حين يكون التقييم الاستراتيجي لها آتٍ من العدو الغربي الأكبر، الولايات المتحدة؟ ففي عام 1993 صرحت مصادر امريكية وغربية ان الانظمة في البلدان العربية مستقرة وقوية. وبعدها بعام واحد أو أكثر قليلاً 1995 في مؤتمر برشلونة صرحت نفس المصادر ان الانظمة العربية تقودها نخبة سياسية صغيرة لا تحوز على قاعدة شعبية، مما يجعل الانظمة هشة، وبالتالي لا بد من توسيع "الشراكة" في السلطة مع راس المال الخاص. فاي الوصفين على المراقب او "مرشح" الخبير ان يعتمد! بغض النظر عن الموقف الايديولوجي الكامن وراء هذا "الرأي" او "النصيحة" او "الامر"، حيث تعتمد كل واحدة من هؤلاء على طبيعة النظام الحاكم في هذا القطر او ذاك وعلاقته بالمركز الامبريالي.
 
الحرب الأهلية من القمة على القاعدة:
الحرب الأهلية هي الأكثر شرعية في تاريخ الحروب، هي الحرب من القاعدة، (من الطبقات الشعبية في وطن ثلث أهله تحت خط الفقر)، ضد النخب الطبقية الحاكمة. ما جرى في الوطن العربي أن هذه الحرب، أدوات هذه الحرب جرى سحقها على يد الأنظمة الحاكمة وحُماتها عبر حرب أهلية ولكن من القمة على القاعدة: جيش وشرطة ومخابرات وخبراء أجانب وأدوات قمع تمارس مختلف أنواع القمع على الشعب في الثقافة والوعي والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.
كان لا بد للأنظمة من سحق الحزبيات العربية بتوجهاتها جميعاً، إلا من ساوم باكراً. سُحقت الأحزاب القومية والشيوعية ولم ينجُ سوى جماعات من الإخوان المسلمين الذين تماهوا مع الأنظمة، إلى أن استنفذتهم وارتدت ضدهم في أكثر من ساحة.
هذا ما قاد عملياً إلى انتقال أحزاب من هدف تغيير النظام إلى مساومة النظام والتحول إلى حركات الترجي والاستجداء وفي ارقى الأحوال الإصلاح. تمظهر الوصول إلى هذا الحال، في تعميم رهيب للانسداد القطري الذي جعل ممالئة الكثير من المثقفين للأنظمة القطرية سلوكاً لا يشوبه وخز ضمير. فهم متمسكون، برأيهم، أن الأمة مواتاً، لم يبق اي حيٍّ ليلومهم!
 
البدايات تونس ومصر
لندخل إلى هذه النقطة بملاحظتين هامتين تتعلقان بمسيرة تطور الوطن العربي. ملاحظة حول منحى التطور وأُخرى حول القومية.
في منحى التطور يمكننا تقسيم الوطن العربي تعسفياً إلى منحيي تطور:
·        منحى تطور القطريات التي لديها واقع جغرافي اقتصادي سمح لها بإنتاج زراعي وبدء تقدم صناعي مثل مصر والعراق وبلاد الشام والجزائر. وهذه قادت الموجة القومية في منتصف القرن العشرين.
·        ومنحى تطور بلدان شديدة الفقر جغرافيا وثرواتياً، وهي الصحراويات كالجزيرة العربية ولاحقا ليبيا وهذه قادت منذ السبعينات اي بعد الطفرة النفطية ردة ضد القومية العربية[7]. 
        وتتوزع القطريات الأخرى بين هذه وتلك. والمهم أن موجة القومية العربية انتهت بين هزيمتها من العدوان الإمبريالي الصهيوني وبين خلل التطبيق الداخلي وانحراف القيادات السياسية الحاكمة والكثير من القيادات الحزبية.
        وفيما يخص القومية، فقد علَّمنا القرن العشرين أن القومية العربية ليست لوحة متسقة مندمجة بل موقفين بالضرورة:
·        قومية رأ س المال الكمبرادوري والطفيلي التي هي مجرد شعار مخادع بينما ولائها وعملها هو في مصلحتها في القطرية والتبعية وحتى العمالة
·        وقومية الطبقات الشعبية التي هي مع الوحدة وضد التبعية ومع الاشتراكية[8].
        ليس هنا مجال قراءة مفصلة لتداخل المنحى والقومية في هذه القطرية او تلك، ولكن ما يهمنا هو التركيز بوضوح على حقيقة أن الثورات الحالية هي رد الطبقات الشعبية على الواقع الرسمي العربي الذي أناخ على الواقع الشعبي.
        كتب فريق كنعان الورقية والإلكترونية الكثير أن الهزائم التي حاقت بالأمة العربية في النصف الثاني من القرن الماضي كانت قد تجسدت في خروج الطبقات الحاكمة من الصراع ومن التنمية، فلا تحقق تحرير الأرض المغتصبة، بل أُضيف عليها، ولا تحققت التنمية بل كان قرناً مديداً كمرحلة انتقالية لم يتحول الوطن فيها لا إلى الراسمالية عن طريق إيديولوجيا اللحاق ولم يتحول إلى الاشتراكية. وكان انسداداً. ثم لحقت بالأنظمة حركات حزبية عديدة خرجت من الصراع الاجتماعي الطبقي ضد هذه الأنظمة وتماهت قياداتها مع هذه الأنظمة. أما كوادرها الثورية فسُحقت بين قتلى وسجناء ومجوَّعين ومضيَّعين.
        إثر هذا غدا الصراع على ابواب الطبقات الشعبية العربية كي تركع للتطبيع والتبعية والنهب إلى الأبد. ومن هنا تحديداً كان اعتقادنا بأمرين:
·        أن الطبقات الشعبية لن تركع، وهذا ليس زعماً بمعرفة لحظة الثورة ولكنه قناعة بدرس التاريخ بأن لا نيأس لأن مجرد عدم اليأس هو قوة روحية باتجاه فعل للتغيير. وهذا ما يُقصد بجيوب المقاومة. إن عدم يأس هذا يشد أزر ذاك. وها هي الطبقات الشعبية تخرج دفعة واحدة.
·        وأن كسب المعركة لا يتأتى إلا بطلاق الشعبي والرسمي. ويكفي دلالة على هذا في شعارات الثورة: إرحل، الشعب يريد إسقاط النظام.
        وكان الحجم الحرج للمأزق أن القوى الحزبية لم تتوفر للتفجير والتغيير بعد ما حصل لها من قمع وما حصل منها من تقصير وخيانة قيادات منها.
        يفيد التذكير أن هذه الورقة، وإن تحدثت عن الوطن العربي، فإنها تحاول حصر نفسها في مصر وتونس، هذه ورقة وليست كتاباً، سيكون الانحصار في مصر وتونس نظراً للريادة ولضيق المدى.
 
مصر الناصرية وتونس قبيل مبارك وبن علي 
لا معنى للخلاف على تسمية 23 يوليو ثورة أم انقلاباً، فالعبرة في قراءة النتائج على الأرض. لنتذكر أن الناصرية حققت التأميم، وحررت قناة السويس، واقامت السد العالي، وفرضت الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين واقامت القطاع العام، وأدخلت ممثلي العمال والفلاحين إلى البرلمان (رغم تزوير كثير في الشخوص)، واعتمدت إحلال الواردات، ووفرت التعليم المجاني لأبناء الفقراء والطبقة الوسطى. لقد قمعت الكثير من قوى الثورة المضادة، وقمعت الكثير من القوى التقدمية ايضاً، ويبدو أنه في سياق التحول التنموي لا بد من وقوع ظلم هنا أو هناك، وأخطاء هنا أو هناك، وليكن للناس اليوم والتاريخ ان يُقيِّموا.
وعلى الصعيد القومي كانت مصر قيادة الحركة القومية الشعبية العربية، رغم الفشل في تبلور الحزب الحقيقي الممثل لهذا التوجه. ولأن مصر الناصرية تمسكت بتحرير فلسطين ودعمت الثورة الجزائرية إلى الحد الذي جعلها تدفع ثمن العدوان الثلاثي 1956، وأرسلت الجيش المصري إلى اليمن ليقترب من منابع النفط، لهذه ولغيرها كان لا بد للغرب الرأسمالي وبقيادة الولايات المتحدة والكيان ودور الرجعيات العربية وخاصة النفطية السعودية، لا بد من تدمير مصر وليس القيادة الناصرية وحدها. وفي النهاية كان عام 1967.
        ومع أن الفارق في البداية والمنطلق بين البورقيبية والناصرية واسعاً، ولكن البورقيبية، وتماشياً مع السنوات الأولى لما يسمى الاستقلال في مختلف بلدان المحيط: حيث كان للدولة دور في الاقتصاد، إذ وضعت تحت إشرافها قطاعات المالية والملاحة وتوزيع الكهرباء والغاز ومصادر المياه. ووضعت الدولة حمايات جمركية ولم تفرض ضرائب عالية وشجعت الاستثمار الخاص المحلي في الصناعات الأولية والوسيطة. لقد ورثت البرجوازية المحلية ما كان يتحكم به الاستعمار الفرنسي من مؤسسات الدولة ودورها.
 
تجويف الوعي:دور الكمبرادور 
        شهد الوطن العربي، وخاصة القطريات التي طردت الاستعمار بالعنف، تحولين اساسيين في حقبة موجة القومية الثانية على صعيد عالمي        تجلت في:
·        جلاء الاستعمار العسكري المباشر وهي الحالة التي وُصفت اعتباطاً بما بعد الاستعمار، وهي ما بعدية غير حقيقية،
·        وفي التحولات التي حصلت في مسار حياة الطبقات التي تسلمت الحكم بعد الحكم الاستعماري.
إن خروجاً حقيقيا للاستعمار لم يحصل. فمجرد عدم القطع بين الدولة المحلية الحديثة والدولة الاستعمارية بل والمركز الراسمالي العالمي بأسره متجلياً في تطبيع العلاقات مع الجهاز والسلطة والمصالح وحتى الموروث الاستعماري، يعني أن رحيلاً حقيقياً للاستعمار لم يحصل. فقد بقي النظام الاقتصادي راسمالياً وفي مستوى تطور مشوه مما أكد ارتباط هذه البلدان بالسوق العالمي. سواء عبر التبادل اللامتكافىء أو بقاء المصالح الراسمالية الغربية على حالها في ظل سلطة "ما بعد الاستعمار" التي تمسكت بالنظم الإدارية والاقتصادية والأمنية التي كانت بيد الاستعمار نفسه لتقوم بنفس الممارسات ولكن هذه المرة تحت غطاء التحرر والاستقلال والوطنية والقومية وحتى الاشتراكية. وهي شعارات كان يسهل تسويقها في السنوات الأولى من عمر هذه السلطات سواء بالنشيد الوطني والراية والخطاب السياسي المجوَّف وتعظيم الحكام وبالطبع وأساساً بتحكمهم بالمقدَّرات متواكباً مع تجنيد فرق من المثقفين الذين يعيشون على فتات السلطان ويتغذى هو من تنظيراتهم.
واجهت هذه البلدان رغبات وطموحات حداثية تجسدت في محاولات لم يكن لها أن تتجاوز الشكل أو السطح في مجتمعات لم تمر بالتحديث. وربما من المفيد في قراءة تلك الحقبة وحتى هذه الحقبة ان نتنبه إلى خطورة تقصيل الشعارات السياسية على واقع اقل منها تطوراً، مما يقود في النهاية إلى القفز عن الواقع.
لقد اكتشفت القيادات المحلية الجديدة أن التحديث هو مشروع تاريخي مكلف جهدا ووعيا وثقافة وانتماء وتنظيماً حزبياً أكثر مما هو مكلف ماليا، ولذا فهو يتطلب وعياً معمقا وملتزماً وتقشفاً في مستويات الحكم والحزب والجماهير معاً. فهل كانت هناك جاهزية لهذا؟ وخاصة أمام واقع عالمي يعرض ويضغط طريقاً اسهل وأقل كلفة ولكن لا تاريخي، اي طريق الكمبرادور.
ما تفيده الوقائع أن هذه الأنظمة الجديدة اختارت الطريق الأسهل، أي استبدلت بدايات الطريق القومي الإنتاجي بطريق العمالة الاقتصادية والخدماتية، الكمبرادور.
لم تقم سياسات الطبقات الكمبرادورية والطفيليلة ومثقفيها العضويين في الوطن العربي على مجرد اتخاذ قرارات وإجراءات، بل كانت ضمن عملية هجوم على الوعي والثقافة والفكر وخاصة على الأطر السياسية الوطنية بتنوعاتها. كان لا بد من الهجوم على مختلف الحالات التنظيمية والانتظامية والجماعية وخاصة بأبعادها السياسية والاقتصادية، ومن ثم رد المجتمع إلى حالات من الفئوية والطائفية والقبلية والمافيوية. كان لا بد من تدمير فكرة وواقع المواطنة بما هي الإطار العام للأمن والأمان للمواطن، لا بد من تدميرها كي يبحث الفرد، وليس الطبقة/ات، عن بنى أخرى لأمانه الاقتصادي والاجتماعي والفردي وليجدها في العلاقة بالسلطة وأجهزة الأمن، أو الاستزلام أو الفلتان الضعيف بلا غطاء، وهذا كان حال الأكثرية الشعبية.
إقتضى هذا تكميم الأفواه ومنع الأحزاب والمنظمات الجماهيرية، والتحكم بمنابر الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب واغتصاب النقابات العمالية والاتحادات المهنية وفرض الأحكام العرفية التي أعطت غطاء لهذه جميعها. وجرى تسويق مقولة أن الديمقراطية لا يمكن زرعها في صحراء الوعي؟
إن تفريغ الساحة المجتمعية وخاصة في مصر وتونس من القوى السياسية وقمعها سواء بالاغتيال او النفي أو الاعتقال أو تضييق العيش إلى جانب عرض المغريات على الحزبيين والمثقفين لبيع الموقف والوعي هي الآليات الكامنة وراء ذلك الفراغ الرهيب الذي عاشته المجتمعات العربية في العقود الماضية. هذا الذي ذاقه الحزبيون لم تعرف به جلود المثقفين المتنعمين على الأقل متنعمين بعدم ذوق طعم الهراوات والشَبْح. هم لا يعلمون أن هذا هو العالم الآخر الأرضي! لذا يسهل عليهم الحكم القاطع المانع ضد الأحزاب والتفاخر بضعفها وغيابها. وقد يكون الأكثر غثارة للضحك المر والأسود أن اكثر من يهزأون بالأحزاب هم مثقفي الأنجزة، والأكاديميا ومثقفي الصفقات المالية والفكرية والبحثية مع جامعات المركز الراسمالي الغربي التي تحتل الجامعات العربية بقليل من المال والمِنَح!
        قادت آليات تجويف الوعي هذه إلى تخليق فردانية في غاية التشوه في الوطن العربي مختلفة جداً حتى عن الفردانية في مجتمعات المركز حيث المواطنة مضمونة ودرجة من حرية القول والغذاء مضمونتين، أما في الوطن العربي فهي حالة الفرد الوحيد الضعيف الذي لا يشعر بأية حماية مما قتل فيه ليس روح الثورة وحسب، بل ثقافة الاحتجاج. فلم يكن من السهولة بمكان مع غياب روافع الوعي السياسي والاجتماعي والطبقي، اي الأحزاب، كيف يمكن للمواطن الفرد أن يقرر الاحتجاج والتصدي.
        وحدها المنظمات الجماهيرية السياسية والاجتماعية والاتحادات والنقابات والأحزاب هي التي تدرب المواطن على الاحتجاج وتعمق لديه الوعي. لذا اقتضى تجويف الوعي الشعبي بسحق هذه الحركات.
 
دولة تجويف الوعي رخوة ولكن بسطوة 
        سنبين أدناه كم هي رخوة الدولة في الوطن العربي بمعنى الفساد في البنية الحاكمية والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وهي رخاوة لا بد منها كي يتهالك المجتمع فلا يبدي أي احتجاج أو مقاومة، كيف لا والدولة عدو الشعب! أما والفساد هو العرف القائم وليست المواطنة أو القانون، فقد غدا الاقتصاد السياسي للفساد هو جوهر التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في هذا الوطن.
        لكن هذه الرخاوة من حيث الحفاظ على الحق العام أو نهب المال العام ترافقها دائما سطوة أجهزة الدولة أو تسبقها كما يسبق التجويف والتجريف كي يتم النهب بأمان.
لذا، ليس من الدقة بمكان الحديث الذي طالما أُدير في الوطن العربي ولم يتوقف بعد عن الحاكم الفرد والطاغية والمستبد. هذه الأوصاف وإن كانت تشفي غليل التعبير الشفوي فهي تفريغية مضموناً لأنها تخفي المستوى الطبقي في أنظمة الحكم. ليبدو وكأن فرداً يقمع شعباً، وبأن إزاحته تُنتج تحرراً. فلا الرئيس الديكتاتور ولا الملك المطلق الصلاحيات ديكتاتوراً لوحده بل بالبنية التي تحيط به ويتبادلان الحماية. هي ظاهرة فردية الحاكم شكلا وطبقية النظام مضموناً.
يُطال تجويف الوعي كذلك السرديات الكبرى والإيديولوجيا ضمن مشروع توسيع التكفير حتى يطال الفرد كما يطال الحزب والأمة. لذا يرمي التكفير بالقومية والاشتراكية وحتى الدين، يرمي إلى تصغير أفق الفرد لينحصر في ذاته المقموعة. ولتحل محل هذه السرديات شعارات القُطرية، وقومية لكل قطر، ويافطات الأردن أولاٍ، ومصر للمصريين، والقرار الوطني الفلسطيني المستقل، ومجتمع الخليج...الخ وكلها شعارات تصغير كل شيء مادي واساسي وتصغير الوعي كذلك إلى أدنى منزلة عشرية.
من تجليات هذه الهجمة تفكيك المجتمع من الداخل طائفيا وإثنيا وعشائريا وقبائليا على أن تُستدعى هذه حين الطلب لتركيز وتثبيت الانسداد بمضامينه السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية بالطبع.
        لقد كشفت هذه الثورة العربية عن ذلك الخواء السياسي والتنظيمي الذي كانت فيه الأمة العربية، وهو خواء لم يكن وليد الطبيعة ولم يكن نتيجة فراغ بل تفريغ وتجويف الوعي بمختلف أدوات العسف
وليس هذا التجويف من أجل ذاته، بل كان المقدمات الضرورية لتمكين وتأبيد تجريف الثروة، لأن المصالح والملكية الخاصة هي الهدف النهائي.
        يًحارُ المحللون في قراءة رؤية الأنظمة لهذه السياسات بمعنى: هل كانت هذه الأنظمة غبية لا ترى أن هذا الاشتداد والامتداد للقمع لا بد أن يخلق نقيضاً؟ وهل اعتقدت ان المجتمع قد غدا مَيْتاً؟ وإن حصل هذا، أي اقتنعت الأنظمة أن العسف هو الحل وهو الضمان الأبدي وخاصة أن الأنظمة وحدها التي تحمل السلاح، كل انواع السلاح؟
        هل هي إذن الحرب الأهلية بالمعكوس، أي من القمة ضد القاعدة؟ هي كذلك، ولكن ما الذي طمأن هذه الأنظمة حتى لا تعطي اي متسع حرياتي شكلاني على الأقل، أي كالذي بدأ يُعطى اليوم للثورة الأولى في تونس ومصر؟
        هل تجد هذه الأسئلة تفسيراتها في صلب عقيدة راس المال؟ اي الركض المتسارع بلا ضوابط وراء الربح اللامحدود والذي محركه فوضى الإنتاج؟ لكن هذه البرجوازية ليست إنتاجية (كما سنرى أدناه) فهي في الوقت نفسه ريعية. كما أن البرجوازية في الغرب الراسمالي ذات قدرة وطاقة إنتاجية وليونة لدائنية بحيث تنطعج وقت الأزمات كي تمتصها؟ هل برجوازية المحيط ليست ذات قرار ذاتي وبالتالي تأتمر بمصالح سيدتها راضية بحصة ضئيلة من اقتصاد التساقط Trickle-down Economy؟ هذا ما تخالفه الضغوطات الأميركية التي بدأت منذ 1995 (مؤتمر برشلونة) على الأقل سائلة برجوازية مصر على سبيل المثال بأن توفر بعض المرونات اللبرالية؟
أياً كان التفسير، فالثورة قد تفجرت.
        على هذا التفجير يدور نقاش عرمرم. هل هو ضمن إيقاع وضبط وتحكُّم البيت الأبيض كما يُكتب، وأحياناً يوثَّق، هل هو تنفيذ مؤسسات التدخل السياسي والثقافي والتقني والعسكري العميم في العالم؟ هل هم أولاد هيلاري الذي بدأوا؟ سيبقى هذا تفكيراً قاصراً، وسيظل اساس الانفجار تجويف الوعي وتجريف الثورة. أما هل تندسُّ أمريكا؟ كيف لا وأميركا في كل شبر! من قال أن الولايات المتحدة لم تدرب الكثيرين من أولاد أل فيس-بوك وكبار شيوخ جنرالات الجيوش العربية، ورجل التفيش في نعل صدام حسين عن مفاعل نووي!. ترى ما العلاقة بين عربي يفتش عن النووي في بغداد وعربي يوقع اتفاق أوسلو-ستان، وعربي يحاصر غزة، وعربي يتبرع بالصناديق السيادية لدعم الدولار وعربي يعمل مخبر ابحاث وأكاديميا وعربي يحلم بزوال المقاومة لأنها تحرجه؟ وهل هؤلاء عرباً!
 
( *** )
التمرد... والثورة
أحمد حسين
 
        يختلف التمرد عن الثورة في أن التمرد يتوقف عند استبدال نظام أو شخص معين بغيره، بينما الثورة تقوم لتأسيس نظامها البديل الذي يتجاوز إلغائيا، طبيعة وفلسفة ودستور الحركة الأجتماعية القائمة. ألتمرد حركة في إطار القائم، قد تكون أحيانا، مجرد انقلاب شخص على آخر، أو فئة على أخرى. وهي في أفضل تجلياتها تغيير في الدستور، لتعديل أوضاع اجتماعية بالغة الإجحاف أو الفساد. بينما تتحرى الثورة تلك الأعراض المجحفة والفساد المستحكم، في أسبابه الإجتماعية والسياسية الأعمق من أجل تحديد نظامها البديل، على طريقة استئصال المرض وليس تخفيف أعراضه.
        وفي عصر الإستبداد العالمي الذي نعيشه، تتجذر علاقات هذا الإستبداد وتتكامل في الأداء، إلى درجة أن أي مظهر له في أية حركة اجتماعية محلية، لا يمكن فهمه إلا أنه امتداد مباشر لعلاقاتها بالنظام السياسي والإقتصادي للمركز الدولي الإمبريالي. كل ظاهرة استبداد أو فساد محلية، هي امتداد شرياني من المركز. وكلما كانت الشخصية الإجتماعية لشعب من الشعوب أضعف، كان عليه أن يدفع ثمنا أكبر عن وجوده لذلك المركز. وهذا هو انعكس اجتماعي للقانون الطبيعي، حول ملء الفراغات الأكبر بحضور مادي أو معنوي أكبر. وبالمقابل فإن مدى استقلال المحلي، المادي أو المعنوي، عن المركز الإستبدادي العالمي، ينعكس على شكل استبداد أقل، يعني في النتيجة، خبزا أكثر وحرية سياسية واجتماعية أكبر، وذات الأمر معكوسا.
        وتعتبر المنطقة العربية بلوجستياتها النظرية المتميزة، وضعفها الإجتماعي المذهل، نموذجا لأسوأ علاقات الإستبداد الإمبريالي المركزي. يكفي أن نقول أن كل الشعوب العربية، بشهادة الوقائع، مستباحة استبداديا أكثر من أية شعوب أخرى في العالم. مستباحة اقتصاديا وسياسيا
        وإنسانيا. ونستطيع القول بدون مبالغة، وبشهادة الوقائع أيضا، أن الإستهانة بالوجود العربي بلغت في المركز الإمبريالي العالمي، حد استهداف الدم والكرامة الإنسانية، كمشروع للتدنيء المعنوي. وبهذا الصدد يكفي أن نذكر أن العراق أبيد بكل معنى الكلمة، وأن الإجتماعية العربية ساهمت بخصائصها التكوينية في ذلك. ليس بالصمت فقط، وإنما بالمساهمة العملية، والتمصدق الثقافي لعجول الدين واللبرالية العربية.
        لنتصور فقط، أن الشعوب العربية كانت في وضع آخر، واستطاعت أن تحمي 50% فقط من ثرواتها، وتتنازل عن الباقي لأمريكا، ثم تقيم بها مشروعا للتنمية تحت المظلة الأمريكية، فهل كانت الأوضاع ستكون كما هي عليه. لماذا لم يحدث ذلك؟ إنه ليس طموحا أكثر من متواضع، ومع ذلك فإن أمريكا لا تستطيع السماح به، لأن مشروع العولمة الأمريكي الصهيوني، يريد منطقة شرق أوسط، خالية من العرب قوميا وتنمويا، وليس شرق أوسط مع إشكال قومي عربي على أي مدى محتمل. هل سأل الشباب العرب أنفسهم لماذا، عند تحديد أهدافهم الثورية؟ لأن الحضور العربي يجب أن يبقى تحت السيطرة الكاملة أمريكيا، لمنع المشروع النظري لحضورهم القومي، الذي يعني أمة قوية في أهم منطقة في العالم.
        إذا كان الوصف المقدم ينطبق على حقيقة المعاينة، فكيف يمكن أن تطالب أية ثورة عربية شعبية، ليست قيد الفكفكة المضادة، بأقل من تحقيق الذات القومية التحررية، كبوابة وحيدة للإستقلال عن الإستبداد الأمريكي، الذي يقف حائلا بين العرب وبين مشروعهم في الحياة، وحرية تشخيص ذاتهم التاريخية؟ ليس هناك ثورات ذات جدوى في العالم العربي، إذا لم تحدد موقفها وطنيا على الأقل. فلماذا لا تحدد الثورات القائمة توجهاتها ومواقفها من أمريكا بوضوح لا يقبل المساومة؟ من يظن أن التحرر الإجتماعي ممكن بدون التحرر من أمريكا سياسيا على الأقل، هو إنسان ناقص العقل وليس الوعي فقط. إذا اختارت الشعوب العربية وطنياتها الخاصة، فيجب احترام ذلك بدون تردد، ولكن الإستهداف هو استهداف إقليمي مصدره معروف وأخطاره معلنة. وجوهر الإستهداف الإقليمي لأمريكا، ويا للسخرية، هو توحيد كل الإقليميات العربية في المشروع الإلغائي الأمريكي. فلماذا ليس هناك رابطة إقليمية وطنية في التصدي الإقليمي ما دام الإستهداف المعادي إقليميا موحدا. ليس الصراع من أجل الحرية الإجتماعية في أي بلد في المنطقة سوى صراع مع أمريكا والصهيونية العالمية، فكيف يكون صراعا ثنائيا متعددا في الأهداف؟ ألعدو واحد، وأهدافه إقليمية واحدة، فما معنى تجاهل هذه الحقيقة، وعدم رفع شعار العداء الموحد لأمريكا، من جانب الثورات ثنائيا أو إقليميا أو قوميا، سوى أن الطابع الثوري الشعبي أصبح يتراجع لصالح التمرد العابر؟ إنه لمؤسف ومحزن معا، أن لا تستطيع الثورات العربية، حتى وطنيا أو إقليميا إدراك الضرورة الموضوعية لرفع وتوحيد شعار العداء لأمريكا، ولو من منطلق موضوعية مقابلة مفادها أن أمريكا عدو موضوعي للجميع، ومن منطلق تعبئة الوعي الشعبي حول حتمية الثورة الكاملة، كي لا يترك جسدا بدون أية مناعة، أمام فيروسات وجراثيم الثورة المضادة.
        منذ متى كانت أمريكا حريصة على الدم العربي، والتحرر العربي، والإنسان العربي؟ هل يتحول النسيان لدينا إلى عمى؟ كلينتون تبدو كمذيعة في قناة الجزيرة، وهي تتحدث عن عدم استطاعة أمريكا السكوت على قتل الشعب الليبي على يد القذافي، أوالتخلي عن مساندة الشعوب العربية في شعيها المشروع إلى الديموقراطية والإصلاح، كما سبق ودعمتها في العراق ولبنان والصومال، وكما تدعم الشعب الأفغاني ضد نفسه. الا يجب على العقل العربي بالذات، أن ينفجر أمام هذا المشهد العبثي، ويخرج عن طوره؟ إن حب المجرم لضحيته ممكن في حالات نفسية معقدة، ولكن في حالة هذه المرأة لا يمكن أن يحدث ذلك. لأنها لا تكره ضحاياها، وإنما تعرف فقط بأنه لا بد من قتلهم. وأمريكا تفعل ذلك الآن في ليبيا، بتزويد الغزو الثوري بالأسلحة ومرتزقتها العسكريين في الشركات ألأمنية كما فعلت في العراق، وتحت ذات المظلات العربية النظامية، والحقوقية، والشرائح الشعبية ذات الثقافة الدينية. وهي تؤجل غزوها الصريح لليبيا لأنها تريد تأليب الدوليين الأخرين للحرب إلى جانبها، لأنها لا تريد التورط لوحدها في أية تطورات محتملة، ولأنها تريد هذه المرة تأسيس أنظمة ذات اتصال بالقاعدة الشعبية، واستغلال لعبة الديموقراطية لتصبح جزءا مباشرا من النظام ومن القاعدة الشعبية. أي أن اهدافها وترتيباتها في المنطقة العربية، هي وحدها التي ترقى إلى مستوى جوهرية التغيير" الثوري "، من خلال التخلص من نمط الأنظمة القديمة، مستغلة الهبات الشعبية لصالحها. ولكن مهما قيل، فإن الهبة الشعبية في مصر وتونس، أظهرتا أن الوعي الشعبي العربي لم يعد كما كان أيام حرب العراق، وأن التدخل الأمريكي والأجنبي عموما فيما يسمى الشرق الأوسط،محفوف بالمخاطر.
        أما ركاب الساركوزية المتوسطية، فهم لا يقلون هلعا على الشعوب العربية من كلينتون، ولذات الأسباب، ولكنهم رغم اختلاف مواقفهم من المتوسطية وضعفهم أمام نفوذ الصهيونية بشكل خاص في بلادهم، يدخلون الحلبة الشرق أوسطية هذه المرة كمنافسين لأمريكا والصهيونية، وليس كمجرد حلفاء رغم أنفهم.
        ويبدو من الإيجابية الثورية في كل من مصر وتونس تجاه الأداء الأمريكي في بلديهما، بدأت تتغلب على الحذر. والدليل على ذلك، أن التنصيبات التي يقوم بها العسكر، باسم التجاوب مع الثورة، لا يوجد أي مبرر منطقي للوثوق بها. فشرف في مصر وأكثر منه السيسي في تونس، ما زالا يشبهان الحلول الوسط، كوجهين سياسيين قادمين من الغموض. وقد يكونان فخين أكثر تقدما ممن سبقهما، في سياق اللعبة الأمريكية التي يلعبها العسكر قي البلدين. ولكن الأمر المؤكد تماما أنهما ليسا وجهين لثورة شعبية. وسوف يتأكد الشعبان بعد حين أنهما كانا ضحية لانعدام الحذر، وتمرير لعبة العسكر عليهما.
        مأ يأمل فيه البعض الآن وأنا واحد منهم، أن يصمد القذافي أمام الغزوة الإخوانية، ويجبر أمريكا على التدخل العسكري الصريح لإنقاذ "الشعب الليبي" أي "الناشطين السياسيين " حسب التعبيرات الإبداعية المترجمة لقناة الجزيرة، لتحسم الأمور نهائيا. إما التحرر العربي أو الإقليمي، أو بداية القرون الوسطى في العالم العربي.
 
 
 


[1] أنظر عادل سمارة كتاب التطبيع يسري في دمكَِ، منشورات دار ابعاد لبنان والمشرق للدراسات الثقافية والتنموية رام الله المحتلة 2011.
[2] Angelique Chrisafis, Sarkozy admits France made mistakes over Tunisia, The Guardian, 24 January 2011: http://www.guardian.co.uk/world/2011/jan/24/nicolas-sarkozy-tunisia-protests
 
[3]إنذارات البطالة والمجاعة في الوطن العربي الدكتور عبد الله التركماني - المستقبل اللبنانية 22/ 01/ 2011
 
[4] Angelique Chrisafis, Sarkozy admits France made mistakes over Tunisia, The Guardian, 24 January 2011: http://www.guardian.co.uk/world/2011/jan/24/nicolas-sarkozy-tunisia-protests
 
[5] World Socialist Web Site, 15 January 2011: http://www.wsws.org/articles/2011/jan2011/egyp-j15.shtml
 
[6]إنذارات البطالة والمجاعة في الوطن العربي الدكتور عبد الله التركماني - المستقبل اللبنانية 22/ 01/ 2011
 
[7] أنظر عادل سمارة، دفاعاً عن دولة الوحدة وإفلاس الدولة القُطرية، مركز المشرق العامل للدراسات الثقافية والتنموية
رام الله 2004 ودار الكنوز الأدبية، بيروت 2003
 

Aucun commentaire: