21 mai 2010

Marcel Khalife : "on m'accuse de détruire la musique arabe, c'est pure hystérie"

مارسيل خليفة : قالوا إني أخرب الموسيقى العربية وأنا أتوقف أمام الاعتراضات الهستيرية

vendredi 21 mai 2010, par سامر محمد اسماعيل

سامر محمد اسماعيل

قريباً من الموسيقى كنا نجتاز الشوارع الضيقة لحارات دمشق القديمة، من دهليز إلى دهليز، ومن حارةٍ إلى حارة، رائقا الخاطر وفي متاهةٍ عذبة لأزقةٍ لامتناهية سلكتُ مع الرجل طريقنا كأننا جزءٌ من صمت العلامة، وكأن الخطوة هي مفتاح الصول لأمكنةٍ تحولت فجأةً إلى أزمنةٍ مموسقة، وبينما كان مرسيل خليفة بخطاه الخفيفة الميلودية يبتعد عابراً متاهة الأحياء الشامية العتيقة كموشحٍ خالصٍ من الحنين، كنتُ أهمُُّ بسؤاله عند التوقف أمام حانوت الفواكه المجففة، أو حتى أثناء تأدية السلام لأحباءٍ كانوا يبزغون عند مطلع كل شارع جديد، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساءً، عند مفرق حي باب توما توقف خليفة عند بائع للأعواد، تأمل أحدها، وكأنه يتذكر عوده الأول الذي ابتاعه أبوه له من سوق الحميدية، لم يخالجني الشك أننا كنا نتحدث طوال الطريق المفضي إلى أسئلةٍ لم تخطر على بالي أثناء بدء الحوار، إذ كانت الأسئلة تتفرع كما حارات دمشق، وتنداح كمياهٍ ترتاح في سريرها النهري، كان اليوم أولى حفلاته في دار الأوبرا السورية لعمله الجديد الكونشرتو العربي مع الفرقة القطرية الفلهارمونية.

الجمهور السوري كان شديد الحماسة لما قدمته اليوم في دمشق حيث استطعتَ لأول مرة أن تقدم مقترحاً موسيقياً غايةً في الجدة من حيث كتابة المقامات العربية ضمن قالب السيمفوني، هل يندرج ذلك ضمن مشروعك الجديد بالبحث عن صيغة حوار مع الآخر؟ هل تحتمل الموسيقى برأيك مفهوم الأنا الآخر؟
بالنسبة للكونشيرتو العربي ما كتبته من روحانية الشرق القديم من ميراث بيزنطية بدفقه الكنسي؛ من لمسات موسيقى فارس السحرية من حزن العراق القديم المودع في المقام، من إيقاع الصحراء العربية من طرب البشارف والسماعيات واللونغات التركية، من الغناء الجبلي والدور المصري والقد الحلبي ومن زخرف الأداء المغاربي، ومن نسمة الفردوس الأندلسي؛ في الكونشيرتو العربي حوار مع الزمن الموسيقي الشرقي ويحاكي كثيراً أصوات هذا الزمن؛ الكونشيرتو العربي عندما لعبناه في السكالا دي ميلانو بإيطاليا ومسرح الشان إليزيه في باريس وأوبر ا الكندي سنتر في واشنطن والروايال ألبيرت هول في لندن بقيادة المايسترو العالمي لورين مازيل لم يحّل ضيفاً غريبا على هذه القاعات، والتي للمرة الأولى تستقبل عملاً سيمفونياً بمرافقة الآلات الموسيقية العربية والمقامات العربية التي تعتمد على ربع الصوت مثل الراست والسيكاه والبياتي وراحة الأرواح وغيرها، وأيضاً الإيقاعات العربية كالمصمودي والوحدة والمخمّس العربي والدور الهندي وغيرها من الأصول الستة عشر؛ أتى هذا العمل مشاركاً في التعبير الإنساني من مادة محلية؛ من موروث نصونه من التلف والابتذال، ونستخرج الدفين من كنوزه التعبيرية؛ نص يزج بالشرق ومفاتنه في الموسيقى العالمية؛ زمن موسيقي متعدّد وممتنع عن التنميط أو عن التعيين النهائي؛ إنه حوار لا ينقطع بين الأنا والأنا، وبين الأنا والآخر؛ مع المشترك والمختلف والبحث عن غنى التجربة الموسيقية الإنسانية وتنوعها، وفتح قابلية التأثر التي تحتاج إليها الموسيقى لتجديد أسلوبيتها عن طريق الإصغاء إلى تجارب الآخرين؛ وغني عن القول أن لكل لغة موسيقية شرقية أم غربية نظامها وتركيبها الإيقاعي والنغمي والمقامي.
كل ذلك وضعني أمام مسؤولية كبيرة لتصوير ضوء المعنى؛ ومصدر الموسيقى واحد هو هويتنا الإنسانية؛ من هنا العالمية لم تكن منذ البداية إلاّ محلية وفي هذا السياق المتعدد اللغات الفنية والمناطق ودرجات التطوّر التاريخي تتوحّد التجربة الإنسانية وتتحقق عالميتها الخاصة بها، وذلك بإسهام كل محلية موسيقية في صوغ ما نسميه الموسيقى العالمية.

يبدو أن هناك تطويرا تجريه دوماً على أدواتك الفنية، من هو المستمع الذي تسعى إليه اليوم عبر مقطوعاتك الجديدة؟
أسعى إلى تطوير أدواتي الفنية رغم السهام الموجهّة بعناية فائقة، وسأظل أكتب حياتي كما أعيشها وكما أراها وسأدون أحلامي بالحرية، وسأصر على أن أكون كما أريد لا كما يريدون، وسوف لن أنتبه إلى الغبار التي تثيره العربات الفارغة لأنني واثق من صواب قلب الحب؛ كتابة الموسيقى بلا مستمع لا تحقق معنى؛ المستمع هو الذي يمنح العمل الموسيقي حياته المتجددة؛ وأدرك جيداً أن هناك صوراً نمطية يتوقع البعض أن تكون مخلصة؛ وفية في مرآته وخاصة لأي فنان ملتزم بقضايانا العربية، لكن أعمالي منذ البداية حملت ذاتاً فردية، وبحثت عن إنسانية الإنسان المقهور والمسلوب والمحاص؛ عن الحياة الشخصية وهذا هو مجال المؤلف الموسيقي. أعرف أن الموسيقي العربي مطالب بالتماهي مع هويته المحاصرة والمسلوبة في الوطن الكبير وفي العالم، لذلك عانيت كثيراً خلال تجوالي الدائم وتداخل سؤال الحرية مع سؤال الموسيقى في توتر عال.

لكن ما هو هذا الشيء الذي ينتفض دائماً في مؤلفاتك، من هو هذا الطائر الصوتي الخارق الذي ينظُم لك كل هذه الموسيقى؟ وما الفارق الجوهري بينه وبين الفنون الأخرى؟
الخارق في الموسيقى هو عدم إمكانية تكرارها؛ الصوت سريع الزوال؛ يمر ولا تستطيع أن تستعيده عندما تشاء؛ ليس كاللوحة تراها والكتاب تفتحه؛ تختلف الموسيقى عن الكلمة المكتوبة لأن الموسيقى تولد فقط عندما يتم إصدار الصوت؛ الموسيقى موجودة في مخيلة المؤلف تابعة لقانون الفيزياء؛ يتخيلها المؤلف في عقله يستخدم التدوين الموسيقي بتلك النقاط السوداء على ورقة النوتة البيضاء المسطّرة والموسيقى تولد فقط عندما تُعزف؛ إذ لا يمكن تكرار الأداء بأي شكل من الأشكال حتى لو تم تسجيله على شريط سيكون مختلفاً؛ ولن يكون الشيء ذاته؛ فعندما نكرر المقطوعة في كل مرة يكون الأداء مختلفاً؛ وعندما تنتهي المقطوعة يختفي الصوت.

أفهم من كلامكَ أن ثمة حدوداً بين ما تكتبه على الورق وبين ما يقوم عازفو الأوركسترا بأدائه على المسرح؟
إذا نظرنا إلى أوركسترا تحتل خشبة المسرح لا نستطيع إعطاء اسم لأي من وجوه العازفين على الرغم من أن الجميع يستحق التقدير والإعجاب بالدرجة نفسها كما كل العازفين البارعين الذين فضلوا المجد الفردي على الذوبان الرائع في الأوركسترا؛ العازفون يرسمون بآلاتهم الموسيقية الألوان المحددة من المؤَلف؛ الأوركسترا لوحة تتضمن كل ما يؤلف اللوحة من خليط الألوان ومن ريشة الفنان ومن ذلك الانفعال الذي يولّد التفاصيل؛ هناك نوع من الجمود وانعدام الحياة في ما يوجد على الورق لكن العازف يقرأ النص والنص يصبح مستقلاً عن المؤلف؛ وكي يعزف النص يجب استيعاب العملية التي أدت إلى وجود هذه النوتات على الورق؛ فهي مرتبطة بسلسلة من الأحاسيس الغريزية وبسلسلة من التخمينات في الأسلوب، وفي إعادة إنتاج الصوت بحيث يجذب الانتباه بالجديد وإعطاء دفعاً أو شكلاً جديداً في كل مرة تعزف فيها المقطوعة.

النقد الموسيقي

برأيك كيف يستطيع الناقد الموسيقي مجاراة هذه الموسيقى التي تكتبها بشكلٍ مختلف في كل مرة توزع فيها أوراق النوتة على العازفين؟
أعتقد أن النقد الصحيح هو جزء من الجمهور؛ الناقد الموسيقي الذي يضع نفسه في مكان المستمع يستطيع تقنياً تحديد مصدر رأيه متسلحاً بالتجربة المقارنة التي كوّنها على إثر عمليات سماع متتابعة؛ هذا إذا اعتمد على علم الموسيقى وتحصن أكاديمياً؛ إضافة إلى ذلك إن الناقد عليه في الوقت نفسه أن يحمل في شخصيته شخصية الفنان مؤلفاً كان أم مؤدياً؛ فهو يضع رجلاً في كل جهة؛ أما معطياته فتكون مرتبطة بين الأسباب والنتائج، فهي تحفظ الزائد في اتجاه وتوقفه في الاتجاه الآخر؛ حتى لو تلعثمت كلماته فإن الناقد يستطيع المحافظة على وزن وقيمة إذا كانت الحجج التي يقدمها تملك هذا الوزن؛ عندما يقدم الصحافي تقريراً عن حفل يرتدي بذة الحاكم العام؛ يطرح اتهامات أحياناً؛ يخلي الحاكم العام المكان للمحامي؛ بالطبع إن أداء أو تأليف عمل لا يمكن أن يرضي كل الناس؛ إن الناقد الموسيقي لا يترك أي تفصيل يمكن أن يثير الانتباه، فهو عند وضع تقرير عن حفل موسيقي يلجأ إلى وصف الأوركسترا مفصّلاً كل عازف على حدة؛ مشيراً إلى قيمة عازفين معينين موجهاً ملامة إلى البعض الآخر؛ عند قراءة نقد فني جدّي عن عازف نستنتج أن النص يضيء لعب المؤدي؛ فهو يحدد إحساس مخيلة المستمع لأنك ربما استطعت إدراك كل ما أرادت مخيلة ذلك العازف الشاعرية إيصاله لك؛ تتعلّم على سبيل المثال كيف أن ذلك العازف يتعاطى مع الموضوع؛ هذا يؤكد جدية العلاقة؛ يدعم قناعتك ويشرًع لانطباعك؛ العازف يوصل إليك إحساساً والناقد الموسيقي يشرح لك صحة هذا الإحساس وهنا ينفذ الناقد مهمته ويظهر عن إفادته.

كيف تقيّم اليوم ما يكتب من قراءات نقدية موسيقية؟
الكتابات النقدية هي حتماً مقروءة بغثها وثمينها، وإلاّ لكانت غابت عن الصحف؛ إن الناقد الصحيح عليه معرفة تحديد مكامن الأشياء التي تعطي القيمة الحقيقية لحفل ما؛ لعمل موسيقي ما؛ أو الأشياء التي تقلل من تلك القيمة؛ عندما يبدأ أحد النقاد بتوجيه ضربات إلى الموسيقيين فهم يعرفون تماماً إذا كان مخطئاً أم لا؛ لا أعتقد أن العدوانية تشكل الطريقة الأحسن في إقناع الموسيقيين بأنهم قصّروا في مهمتهم؛ إن الاتهام يساهم في رص صفوف الموسيقيين الحقيقيين الذين يدفعون الناقد إلى قفصه وحيداً؛ بالقرب من النقاد وأحياناً مختلطين في صفوفهم يوجد المعلقون العالمون بالموسيقى والمحللون؛ ينغمسون سلاحاً وعدّة في الغابات المظلمة للمغامرة التحليلية؛ للأسف إن أدوات لغتهم تنغلق عليهم، وبالتالي لا تستطيع اللحاق بهم إلاّ برادار الحدس.

هذا يعني أن هناك تغيرات جديدة في الموسيقى العربية المعاصرة على النقد أن يضعها في سياقاتها النظرية؟
صار للموسيقى العربية الآن أن تحتفي بالمنحى التعبيري الذي تجتازه؛ لم تعد الصورة ولا الإيقاع ولا الجملة ولا الأدوات ذاتها؛ الأمور تجري كما يحلو لها؛ لم تعد لدينا رغبة في معرفة مستقبلنا بالوضوح الحديدي الذي تسلّح به المحافظون؛ إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم؛ وليكن من حق الآخرين؛ المحافظين أن يسمّوا هذا خراباً؛ فربما حلا لنا ذلك أيضاً؛ وهكذا عندما أصدرتُ اسطوانتي الأولى قالوا اني أخرّب الموسيقى العربية ولم يكن أحد يملك حق منعي عن ذلك؛ لا يجوز أن نتوقف أمام الاعتراضات الهستيرية التي تنتاب بعضهم وهم ينظرون إلى المشهد الموسيقي يشطح خارجاً عن صورته القديمة بما لا يقاس من التنوّع؛ لا يملك أحد سلطة مصادرة، وليس عندنا وقت أن نشتغل بمهمة إقناع أولئك بأن ما يحدث هو من طبيعة الأشياء؛ إنها حريتنا الأخيرة بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء؛ إذ ليست لدينا معجزات لدينا مخيلة وأحلام مكبوتة؛ الأسلاف صاغوا حياتهم وطريقة عملهم كما يحبون ويستريحون، وكل ذلك حقهم وينبغي الآن من المبعوثين أن يكفوا عن محاولة إثارة الضجيج حول ما أنجزه الأسلاف؛ ثم لماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حرية الأجنحة ؟ ليس أمام التجارب الجديدة إلاّ أن تذهب إلى حدها الأقصى بموهبة وبمعرفة؛ الإبداع توغل في غموض ما لا يعرف؛ فالمعروف هو ما تمّ اكتشافه وصار ناجزاً ومستقراً؛ وشرط نجاح التجارب الجديدة أن تخرج على الطوق والطريقة معاً؛ وتصدر من الحياة الأكثر تأججاً واتصالاً بالمستقبل.

بعد عودتك اليوم من باريس إلى عمشيت أي موسيقى تلك التي تبحث عنها في المكان الأول؟ ما الذي تغير في داخلك؟ ما الذي يفصلك اليوم عن ذلك الطفل الذي كان يعزف على كراسي الخيزران؟
عندما كنت صغيراً لم أدرك أن الكبار كانوا صغاراً مثلنا؛ ذات يوم كنت أعتقد أنهم خلقوا كباراً ولم تكن لهم طفولة ذات يوم؛ كانوا يوهموننا بأنهم يعرفون كل شيء. يسرقون منا طفولتنا المنذورة للرحيل المبكر لندخل في عالمهم المفضي إلى العدم؛ لماذا يدفعوننا لنخسر طفولتنا ونقحم في عالم لا نفهمه ولا نفقه كنهه ولا سره؟ كنا أطفالاً منذورين للعب والضحك والمطر والشمس؛ وكانت الأرض تهرب من تحت أقدامنا كالرياح العاتية تقصف في دربها كل شيء؛ كنا كالسيل العارم نجرف بدربنا معالم الحقول والهضاب ونرميها في تلك الوديان السحيقة، وكان يأخذنا الدهش من كل شيء نجلس على أكوام القش في الحقالي نراقب العصافير تحوم على الحبوب المنثورة، فتختلط رائحتنا برائحة الزعتر والنعناع، وفي الليل كانت أجسادنا تغتسل بضوء القمر الفضي على إيقاع البحر ونظامه حيث كنا نغافل أهلنا المشغولين ونسرح مع الصيادين في ليل أعمى لا نرى فيه شيئاً، لكنه كان ينتعش بالسهيرة، وكانت الأمواج الصغيرة تحملنا وتلفنا بالزبد، ولم نكن نتوب عن ركوب الأمواج؛ الزمن قاسي يراقبنا يداهمنا، لكننا كنا نتحين الفرص لنسابقه لنستعجله وهو يتباطأ كي لا نراه إلى أن غافلنا وبدأنا نستمهله وهو يجد السير بنا، أتذكر.. كان جدي يحفر يقلّم يسقي ينتزع أوراقاً أو يقطف الورود، والطفل الذي كنته تنحفر الأشياء في ذهنه في شهر شباط كان يطعّم التفاح والإجاص، وفي شهر نيسان تتفتح الورود والبنفسج بين يديه، ويزرع الأكي دنيا والعرايش، وفي شهر أيار يكتسي الزيتون بالزهر ويسقط الخوخ والمشمش والخيار في يديه، وفي الصيف يبدأ بالحصاد ودرس الحبوب، وفي شهر آب ينضج العنب والبطيخ وفي شهر أيلول الجوز وثمار البلوط وقطاف العنب والرمان والسفرجل والزيتون، وفي تشرين تسقط أوراق الشجر، وفي كانون تعود الأمطار التي تغذي الأرض ويعود ويزرع البصل والثوم.
رحل جدي يوسف ورحلت معه تلك العصافير التي كانت تزين حقول عمشيت، ونبتت بنايات عشوائية أكلت الأخضر واليابس وصار ملوّنا بلدي الأخضر.

الفقد

تتحدث كأنكَ تعيش حالة من الفقد غير المنتهي، ما الذي تغير اليوم؟ وما هي التغييرات التي أعادتك إلى عمشيت بعد كل هذا الزمن؟ أي نوستالجيا تلك التي تبرم الموسيقا مع الأمكنة الأولى؟
أستطيع قياس حجم التغييرات الداخلية والعاطفية والنفسية التي طرأت على حياتي يوم رحلت أمي الصغيرة حيث أدركت ما الذي يعنيه هذا الغياب، وأدركت أنها لن تعود فارتميت في حضن جدتي وبكيت؛ لقد كان موت أمي من أكثر المناطق إيلاماً في ذاكرتي؛ باكراً يومها غنّت العصافير الصغيرة وحيدة والتفّت على صباحي بشدوها المتعرّج بليلي العميق؛ لقد قاومتُ ذلك الغياب الصاعق لأمي حيث كان ينبت من بين يديها الحبق والريحان على مصطبة تمتد من خطاها؛ كسهلة صغيرة في أحواض ممتلئة بالتراب والحياة؛ صمتي اليوم مرصّع بالأمل؛ أفتح مسارب الهواء من أجل أقدام الصباح المشغولة بالوصول إلى الهدف لتختفي وتتلاشى على الأزرق في موجة آتية من بعيد، لتتكسر على الصخور ألاحقها وهي تتعب عند بلوغها الشاطئ لترتاح عند أقدام اليابسة؛ وفي الطريق على بحر عمشيت قطط تنزلق هائجة مائجة على صراخ الشهوة؛ أعود إلى حي العربة، إلى بيتنا العمشيتي وشمس حارقة تدخل من النافذة. إنها الرابعة بعد الظهر؛ تزحف على قدميّ؛ على السجادة الحمراء وتلعق الأوراق أمامي؛ كنت عندما أدخل غرفة الطريق في هذا البيت العتيق أتأمل روح أمي المتألقة الناهضة إلى الأعالي؛ لم يكن سهلاً أن تفقد عناقات واحتضانات أم إلى الأبد؛ أتت مثل البرق في حياتي وتركت أثراً شفيفاً أحمله؛ رحلتْ وتركتْ أحلامها تغمر قلبي بنعاس لذيذ؛ تجلس إلى جانبي؛ تأخذ يدي؛ تقبّل وجهي بدمع ابتسامتها؛ كيف حدث يا ابني وبيّض كل هذا الشيب لحيتك؟
كيف يمكن أن يشيخ المرء بهذه السهولة، وأنت ما زلت طفلاً في حضن أمك؟ الحب هو الذهول؛ هو الجنون؛ إنه مثل النهر؛ المجرى هو الذي يبدأ وينتهي وليس الماء؛ طرف الشال الأزرق الذي غطّى وجهي ولامس عيني من النور المفرط والأبيض الحاد والجارح أبكاني من زهوه.

لكنك عبّرت عن هذه العلاقة بطريقة أو بأخرى عبر قصائد درويش إلى أمٍ لا ينتهي الحنين إليها؟
ربما لن يفهم أحد علاقة أم بابنها ولن يبررها، وأنا لا أتطلع إلى مثل هذا الفهم؛ فالبشر قليلاً ما يفهمون ما لا يشعرون به؛ أجهل متى بدأت العلاقة وسأبقى أجهل ذلك؛ فليس الحب إلاّ تعرّف الذات على ذاتها كي يخرجها من الصدفة إلى الوجود؛ عندما كنت صغيراً لم أكن أدرك ان الكبار كانوا صغاراً مثلنا كما قلتُ لك؛ كنت أعتقد أنهم خُلقوا كباراً ولم يكن لهم طفولة ذات يوم؛ ونبتعد عن تلك الطفولة المنذورة للرحيل المبكر، وندخل في عالم الكبار المفضي إلى العدم؛ أُحسّ اليوم وأنا أتذكر أمي أن كل شيء في هذه الدنيا يعيش لمرة واحدة؛ البارحة كان نهاراً واحداً وانتهى؛ لن نكرره؛ سيأتي يوماً أخر؛ وكلما التقينا عرفتُ أننا سنلتقي لمرة واحدة قد لا تكون الأخيرة لكن لن يكون مثلها؛ زهور الحديقة تتفتّح مرة واحدة؛ عندما تذبل لا تعود من جديد بل تأتي زهور أخرى.

ألم ترتب لك الموسيقى ذلك الحنين؟ ألم تأخذك إلى قراءة المكان الأول كنصٍ موسيقي لا متناهي في لغويته ومتخيله؟
ماذا عليّ أن أقول؛ وعيناي تسرحان بين الكلمات على حفافي الجرح؛ وصفحات قصب الوجع تنبت نايات ساكتة على بحة مقام؛ الكلمات تقفز الواحدة بعد الواحدة لترتمي بأفياء الهدب؛ حيث رائحة حبق وعتب، ورد وتراب؛ لم أنتظر قطعة سكر أو ثمرة أول موسم، أو خبزة صاج ساخنة تحرق ولا تخفف الجوع؛ إنني أحاول أن أصفو من خلال صمتي أمام صفحة بيضاء مسطّرة أدوزن عليها العلامات الموسيقية؛ لن يكون بوحي شجياً ولن يكون بارعاً؛ في صمت مفعم بالحب وفي انعدام الوساطة بين الإحساس والنوتة أكتب حروفاً بلا تشكيل بلا قواعد ربما كتابة على الحياة مباشرة؛ إن صمتي يئن من صمته ويتهدج تحت ثقل المخطوطة أحترف البكاء اللا مرئي وأدس حرقته في الدعابة؛ كم من سؤال مرّ بي فأجلته لخجل في العيون؛ لا معنى يشبعني إلا ما تبعثه الموسيقى ولا مبنى يغويني إلا ما تشيده الموسيقى أحاول جاهداً أن أجد مقعداً للحنين على وقع الموسيقى في مساء لا يطيب لي إلاّ ما يملأه شجن الروح لأعيد دهشتي الأولى من جديد، ولأرحل مع الطيور العاصية إلى أفق بعيد غامض أحبه دائماً غامضاً في الأقاصي الزاخرة لاستبدال فوضى العالم بالإيقاع؛ هل ما كتبته وما سأكتبه هو بمثابة الشك في قمر الحب الذي يغمر ليلنا الدامس بالفضة الصريحة؛ أدافع عن صمتي ولا أملك دفاعاً غير النوتات التي ولدت من صخرة الجبل متميزة برهافة عصفور.

باريس ومحمود درويش

وعود من العاصفة عرّفتك إلى محمود درويش شقيق أغنياتك وموسيقاك، الآن كيف ترتب حياتك في غيابه؟ الأماكن المشتركة بينك وبينه، لا سيما أنكَ تحضّر اليوم لألبوم خاص من قصائده الأخيرة؟
ما زال صدى تلك الأيام العابرة مع صديقي محمود درويش يحلّق بي على غيمة بيضاء في بيروت في القاهرة في باريس في دمشق في الجزائر في تونس في الرباط في عمان في نيويورك، وفي الطريق إلى القدس؛ في الزهرة الطالعة من جرح الصخرة؛ في الجلسة؛ في السهرة؛ في ليلة رأس السنة؛ في الفندق؛ في المطعم في المقهى؛ في الساحة؛ في القطار؛ في الباخرة؛ في الطائرة؛ في الباص؛ في السيارة؛ في كل شيء؛ كل شيء؛ كل شيء؛ أتنهد من أعماقي والأرض تتسع وتدور وأدور معها كغريب بدونك يا محمود. كم مرة قطعناها معا كطير الحمام في يومين؛ أنا ومحمود نتبادل الحنين الذي لا يفسّر من خلال دمع الغيب؛ نشربه حتى الثمالة؛ ما أجمله وهو يعلو بالشعر وبالحب ولا يستكين، وليس له إلاّ الريح يسكنها؛ يدمنها؛ يتنفسها، اليوم يمكنني أن أتذكر طريق عودتنا أنا وهو ذات مساء من جنوبي الجنوب؛ وقتها تقاسمنا الطريق وقطيع الماعز الذاهب إلى حظيرته يخفي ثغاءً مبحوحاً من فرط وطأة المساء وكانت الطريق مفتوحة على القرى الممتدة قال لي محمود يومها : ما أجمل هذه البلاد وهؤلاء الناس الطيبين يحلمون بصياغة الحياة ولا يتوبون عن أحلامهم؛ يعشقون ولا يأبهون من خسارة غدهم؛ أعلن انتمائي إلى جهاتهم؛ أتذكر أيضاً حفلة باريس الأخيرة على مقعد الحنين، محمود يستمع إلى التقاسيم وتعاليم حورية، كان كالقمر المتلألئ في سمائه؛ في قلقه المتوّج بقوس قزح، وفي الغيمة التي أينعت في عشب روحه « محمود دعني أنظر نحوك؛ فأنا أمشي باتجاهك أطير إليك؛ ألمك من وحدتك في مساء بعيد ونكمل ليلنا في ساحة التروكاديرو ».
ماذا أقول أنا اليوم أشتهي بريق حضوره لأستعيد الدهشة الأولى؛ أحن إلى صداقته تأخذ عذوبة الحب؛ أحس بالمطر يخترق أعماقي؛ هل تكون هذه الكلمات أصواتا له أستعيدها من زخات المطر التي بللتنا ذات مساء ؟ كيف تتحرّك الأمكنة والناس والأشياء والزمن؛ هل هذا هو ضوء الحياة؟ أو هل هذه هي النار المشتعلة أو هل هذا هو الحب يا محمود؟ هل هو الوهم الذي صار حياةً أرضاً كواكب نجوماً أو هي رغبة ولادة؟ عزلة؛ تذكر؛ نسيان حلّ فينا أنا وهو وتجسدنا لنبحث عن حب كثير في فضاء واسع وسع الأبد؟ هل هذا التذكر والتخيل وهذه الكلمات تبني حياة نكون فيها لا قبالتها؛ نسترد غبار الدروب الأولى الذي علق بأقدامنا ولشكل الحياة التي امتزجت بنسيم خفيف تحوّل ريحاً يحوم كالطير على أرض مدورة يداعبها بغبار النجوم؛ يملأ نهاراتها بنور الكواكب من ملايين السنين الضوئية في فضاء هائل؛ ليصل إلينا؛ ليحيا فينا؛ ليأخذنا في تمرين يومي إلى الدخول في مكمن الحياة السري؛ نداء يحتضن صرخة مبللة بالملح وأرض تترعرع في القمح؛ لا نتوحد مع الكون بل يتوحد الكون فينا؛ في ليل دمشق الحاني هذا يقودني حلمي إليه وأهرب من نعاسي لأدوس على عشب السماء كي أصل إلى محمود؛ أشهد أن صداقته عششت في كياني؛ أذرف دمع الكلام وأناجيه كلما نهدت في منامي يخفق قلبي؛ أحس بطعم غيابه ويغمرني نوره؛ أناديه لحناً همساً حباً حلماً فهل يسمعني؟ كم ضاق هذا العالم برحيله؛ كان محمود أنيقاً كعصفور طليق؛ وحيداً كغيمة شاردة؛ غزيراً كنهر هادر لا ينضب؛ صاخباً كموجة لا تتعب من حراكها الأبدي؛ أتساءل من أين أتى محمود؟ لكن لا أحد في إمكانه أن يسأل الموجة من أين أتت.
أشعر بثقل كلامي عليه، فننعطف إلى حارةٍ أخرى من دمشق الليلية العابقة بالمسرات الطفيفة، أحاول أن أغير الحديث، أن أبتعد قليلاً عن محمود الذي تركني مع مرسيل، يسألني أين نحن الآن؟ فأقول له في الطريق إلى باب شرقي، يهدأ قليلاً ونحن نغذ الخطى إلى المطعم القديم، يبتسم ملوحاً لامرأةٍ تمر قبالته، نرتاح قليلاً في قهوة الرصيف.

ماذا عن مشروعك المؤجل « جسد » أين وصلت مع الرقابات العربية من أجل إطلاق سراحه؟
أولاً أريد أن أقول لك إن الثقافة لا تكون إلاّ متى كانت حرية؛ الحرية للثقافة شرط وجود أوهي بهذه المثابة؛ ومن ليس حراًّ فدونه ودون الإبداع الثقافي مساحة الفراغ الذي لا يحد؛ وحيث لا تكون حرية؛ يمكن للثقافة أن تكون أي شيء آخر غير أن تكون ثقافة؛ يمكنها أن تتحوّل إلى إيديولوجيا دعائية؛ إلى خطاب متلعثم يغمغم بمفردات غامضة وتبريرية؛ إلى فولكلور للزينة؛ إلى إي أي شيء تفتقر فيه إلى ما يجعلها ثقافة تعبّر وتبوح؛ تكشف المخبوء وتهتك المستور؛ وتؤدي وظيفتها الإنسانية والاجتماعية والجمالية؛ الحرية للمثقف كالفضاء الفسيح للطائر؛ كالماء للسمكة؛ كالتربة الخصبة للمزارع؛ وليس صحيحاً أن قليلاً من الحرية خليق بأن يصنع مثقفاً أو مبدعاً؛ فالحرية لا تقاس بالمقادير ولا تخضع للتكميم الحسابي، ففي تقييدها بالحدود حط وزراية لمعناها؛ وكما أن الطائر لا يملك أن يحلق في القفص؛ والسمكة لا تملك أن تسبح في زجاجة الزينة المنزلية؛ والمزارع لا يملك أن يزرع في الرمل؛ كذلك لا يكون في وسع المبدع المحجوز بأصفاد المنع والمتمتّع بشبهة حرية أن يبدع بالمعنى الحقيقي للإبداع؛ المعنى الوحيد له كانطلاق حر نحو إعادة بناء كل الأشياء والرموز والمعاني والعلاقات؛ للثقافة والإبداع تجربة مريرة مع السلطة؛ جميع أنواع السلطة؛ تختصر محنة الحرية في تاريخها؛ الإبداع في عرف كل سلطة تطاول على الموروث؛ والمتعارف عليه والمشهور بين الناس؛ في العقائد والاعتقادات والتقاليد والقيم والأخلاق العامة؛ هو في هذه الحال؛ أشبه ما يكون بالبدعة؛ وهي موطن الذّم والقدح والاستنساخ عند حراس الموروث العقدي والأخلاقي؛ البدعة خروج عن الأصالة ومروق والإبداع صنوها في ذلك المروق منظوراً إليه كتحرّر من سلطان السائد والموروث؛ هل هي محض الصدفة في اللسان العربي أن تتشابه البدعة والإبداع لفظاً وأن تُشتقا من الجذر اللغوي نفسه؟ أم أن وراء التشابه بعض تماه في المعنى والدلالة لدى حراس الموروث والسائد والمقدس؟

( دمشق )

Pétition
Non au terrorisme de l’Etat d’Israël

source : al-oufok







Aucun commentaire: